:::هَـــمٌّ
فحـزنٌ فعـجزٌ فكــسلٌ:::
الحمد لله، والصلاة والسلام على
رسول الله، أما بعد،
هؤلاء الكلمات الأربع كان كثيراً
ما يستعيذ منهن النبي –صلى الله عليه وسلم- كما يخبرنا بذلك خادمه أنس بن
مالك -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري (كنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل...)
الحديث.
ولنا وقفات مع
هؤلاء الكلمات الأربع:
فالهم هو
شغل الفكر والعقل والقلب، وغالباً هو بداية الحزن، فيهتم الشخص أولاً، ثم
يحزن تبعاً لهمه. وليس كل هم مذموم، بل إن الهم الذي يؤدي إلى
الحزن هو المذموم، ولا يكون ذلك الهم الا هم الدنيا، فكل هموم الدنيا تؤدى
إلى الحزن؛ وذلك لأمور:
- أن هموم الدنيا متفرقة متشعبة
فيتشتت المرء فيها فيشقى ويحزن.
- أن باهتمامه بالدنيا انشغل عما
خلق له من عباده ربه فكان الشقاء جزاءه.
- أن من جعل الدنيا همه لا يكاد
يهنأ، بل هو في شقاء دائم؛ لأنه دائماً يرى فقره بين عينيه، وكأنه لم يحصل
شيء، فلا يقنع بشيء ولا يرضى بحال.
ما أخبرت به، وما لم أخبر هو مصداق
حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من أصبح والدنيا
همه فرق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤته من الدنيا ألا ما كتب
له).
أما الهم
الذي لا يؤدي إلى الحزن هو أن يترك الإنسان همه، ويكون مهتماً
بما خلق له، وبما يخبره أن السعادة تكون فيه، وهذا لا يكون إلا أن يجعل همه
هم الآخرة، وهذا أيضاً مصداق حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ومن جعل الآخرة همه جمع الله شمله، وأتته الدنيا وهي
راغمة وجعل غناه في قلبه).
- أما الحزن
فليس مقصود في ذاته ولا يتعبد به، إذ كيف يتعبد به والنبي –صلى
الله عليه وسلم- استعاذ منه، لكن قد يحدث الحزن اتفاقاً، فينهى عن التمادي
الذي يؤدي إلى المغالاة، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى
ربنا) فهذه أكمل الحالات حزن قلب؛ لأنه المناسب للرحمة التي خلقت
فيه، ثم هذا القلب أيضاً ممتلئ بالرضا عن الله، فيتحقق التوازن والتناسب.
وأما الفرق
بين الحزن والخوف، فالحزن يكون على فوات شيء مضى أو على مكروه وقع.
أما الخوف فهو لتوقع مكروه في المستقبل، وهما منفيان عن أهل الآخرة، بل
تأتي بنفيهما البشرى من الملائكة عن السياق
(ألا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(يونس:62)
وهو كذلك حال المؤمن الذي عمل
الصالحات في الدنيا، إذ كيف يحزن وهو عبد لرب
يتوكل عليه، ويرضى به، ويرجوه ويستغفره، ويتوب إليه. فإن كان يحزن لذنب أصابه فباب التوبة مفتوح، وإن كان يحزن
لمكروه وقع فباب الرضى ميسور، وان كان يخاف من مستقبل مجهول فأين توكله على
ربه؟ فضلاً أن قد وحد همه وهو هم الآخرة، فبالتالي قد وحدت أحزانه
ومخاوفه، فإيمانه وعمله الصالح، وتوكله على ربه، ورضاه به، ورجاؤه إياه
حائلاً بينه وبين الخوف والحزن، بل هو يعيش حياة طيبة في الدنيا، ثم ينقلب
إلى حياه أطيب وأسعد في الآخرة (من آمن بالله واليوم
الأخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)
- ومع كل ما ذكرنا فنحن لا ننفي
ورود هذه المخاوف والأحزان حتى على من حصل الإيمان والعمل الصالح، لكن ما
نؤكده ونقرره أن أفضل من يستطيع مواجهتها وإبدالها بضدها هم هؤلاء من
حصَّلوا الإيمان والعمل الصالح، وإلا فإن السادة الأتقياء الأولياء قد
أصابهم من ذلك، فهذا موسى قد خاف، وهذا يعقوب قد
حزن، وهذا ذا النون قد أصابه الغم، وهذا أيوب قد أصابه الضر، انظر
إليهم وقد أصابهم كل هذا، لكن أيضاً انظر إلى أحوال قلوبهم؛ لتعلم يقيناً
ما أخبرك به، فهم قد ابتلوا بذلك لأنهم في هذه الدنيا وهى دار ذلك، دار
البلاء والهموم والأحزان، دار قضى فيها البلاء بالخوف والجوع، ونقص من
الأموال والأنفس والثمرات.
- نقول ذلك لأن أغلب البشر عندما
أرادوا إزالة هذه المخاوف والأحزان، سلكوا سبيلاً به تزيد عليهم أضعافاً
مضاعفة، فوقعوا فيما فروا فيه، وداروا في دائرة لا نهاية لها من زيادة
الأحزان والهموم والمخاوف؛ لأنهم سلكوا سبيل البعد عن حالتهم وما خلقوا له.
لكن انظر إلى من وحَّد هدفه ومراده
وغايته، فلا يريد إلا الله، ولا يريد إلا ما يريده مولاه، فهو لله وبالله ومع الله، وقد توكل عليه
ولجأ إليه واستغنى به، وعز به، وقوى به، حينها لا
يحمل هماً ولا حزناً ولا خوفاً، إذ كيف يصيبه الحزن والغم
وإلهه إله غني قادر قوي عزيز، مالك لكل شئ. وهو يسير على مراد مولاه؛ لعلمه
بكمال حكمته في شرعه وقدره، وكمال علمه وعدله. فهو يحب ربه، ويحبه ربه، فيعلم أن لا يقضي له إلا الخير، وأن يبعده
عن كل شيء، ويحميه منه، حتى وإن ظهر عكس ذلك، ثم هو كذلك لعلمه بنفسه
خالفها، ولم يتبع هواها، وحارب عدوه وشيطانه.
فانظر إلى حال هذا العبد الذي كلما
حقق من كمال العبودية، كلما انقضى عنه من الهم والحزن في الدنيا والآخرة (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
(الأنعام:82)
- ثم تأمل
معي في معنى العجز والكسل، وسر اقترانهما؛ لتعلم أن هذا الدعاء فيه
سر عجيب، فالعجز هو وجود إرادة للفعل مع عدم وجود قدرة لإنجازه أو قدرة
ضعيفة.
أما الكسل
فهو انتفاء تلك الإرادة، فأي فعل هو اجتماع الإرادة مع القدرة، بمعنى
أنك تريد وترغب، فتتحول إرادتك، لإنجاز عمل ما، ثم لو صادفت هذه الإرادة
والرغبة قدرة عندك لتم الفعل ولابد؛ فالإنسان إذا توافرت له الإرادة، فقد
خرج من دائرة الكسل، فإذا كان عنده القدرة فقد خرج؟ أيضاً من دائرة العجز
فيتم الفعل ولا بد.
فانظر كيف رتب النبي -صلى الله
عليه وسلم- دعاءه لتقف معي على هذا السر البديع ممن أوتى جوامع الكلم. فالإنسان إذا اهتم بالدنيا حزن عليها.
فأصابه العجز عن عمل الآخرة، فيولد ذلك الكسل فلا يريد الآخرة -والعياذ
بالله-، وهذا هو ما رتب به النبي -صلى الله عليه
وسلم- دعاءه فبدأ بالاستعاذة من الهم الذي يولد الحزن، وهذا الحزن يصيب
صاحبه بالعجز، ومن ثم يصاب بالكسل. والله أعلم.
وعلاج العجز وضحه النبي -صلى الله
عليه وسلم- بقوله: (استعن بالله ولا تعجز)،
فيكون بالاقتصاد التام، والانكسار الكامل والاستعانة المطلقة بالله، ولا
يكون ذلك إلا بتمام اليأس من النفس وحولها وقوتها. والاعتقاد الجازم بمدى
فقرها وعجزها وذلها لربها وخالقها.
فليس علاج
العجز كما قد يظن هو بدفع مزيد الثقة في النفس ورؤية كمالاتها، لا
ليس كذلك، بل هو برؤية فضل الله وكمال غناه وعزه،
وأنه عبد لهذا الرب الغني القادر العزيز، الذي بيده كل شيء،
وإليه يرجع كل أمر، حينها يأخذ ربه بيده ويعلمه ويوفقه، ويرزقه القدرة
والعمل، ولا يمنع ذلك أن يذكِّر نفسه بما منَّ الله عليه من قبل، ليعرف ما
وهبه الله من كمالات فيشغلها ويحسن توجيها، حتى لا يصاب باليأس المقعد عن
العمل، فالأمر وسط وهو بين طرفي نقيض، فلا يعجب بنفسه وينسب لها كل كمال،
ولا ييأس منها بحيث يترك العمل.
- وأما
الكسل وهو عدم إرادة الآخرة، وتسويف عمل الآخرة، فسببه أن الإنسان
قد يأتيه أرادات الخير والصلاح، فيردها ولا يريدها، ويعجز عنها فيعاقب
بتقليب القلب، فلا يريد الآخرة، ولا يسعى لها كما قال الله -عز وجل-: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110).
فهؤلاء قد عوقبوا بتقليب القلوب
والأبصار عن الحق والإيمان؛ لأنهم جاءهم منادي الإيمان أول مرة فردوه، ولم
يستجيبوا له كحال أغلب الناس اليوم، نجد قلوبهم مليئة بإرادات الدنيا
وشهواتها، وليس في قلوبهم إرادة للخير، بل نجدهم قد يحاربون الخير، وتنتكس
قلوبهم، فيرون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، نجدهم كما وصفهم النبي –صلى الله
عليه وسلم- عالمين بأمر الدنيا، أجهل ما يكون بأمر الآخرة، يحقرون العظيم
وهي الآخرة، ويعظمون الحقير وهى الدنيا.
وكل الخلق -نعمة من الله وفضلاً،
وإقامة للحجة عليهم- قد أتاهم هذا النداء، نداء الإيمان والحق، لكنهم قتلوا
هذا النداء في قلوبهم، ولم يستجيبوا له، فعقوبوا
بصرف قلوبهم عن إرادة الآخرة، فإرادة الخير في نفسك هي نعمة من
عند الله يجب عليها شكرها بالاستجابة السريعة الفورية لها، حتى لا تعاقب
بزوال هذه الإرادات من قلبك، وتستبدل بإرادات الدنيا وشهواتها، وتكسل عن
عمل الآخرة.
فإذا
أتتك بادرة الخير من صلاة أو صيام أو زكاة وغيرها من الطاعات، وحدثتك نفسك
بها فبادرها، واستغلها، ولا تتكاسل عنها، واستجب لنداءات ربك في
كتابه: (وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل
عمران:133).
وصلِّ اللهم وسلِّم على سيدنا
محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.