لــمــحــــة تـــاريـــخـــــيـــــة
الدورات الأولمبية تظاهرة رائعة،ابّتكرها الإغريق لأنفسهم، وقدمها نبيل فرنسا البارون "بيير دي فريدي دي كوبرتان"،هدية للعالم بعد أن انتشلها من غياهب النسيان، وأزاح عنها تراكمات السنين، ونزععنها ثوبها القديم ثوب الوثنية والعنصرية والنزعة القومية، وألبسها الثوب الجديد "ثوب العالمية"، وأصبحت واحة للسلام العالمي بين الشعوب.
دورات شاملة؛ رياضية،وفنية، وأدبية. ماضيها عريق تمتد جذوره إلى مئات السنيين قبل الميلاد، وحاضرها مشرقومزدهر. وتاريخها فريد وطريف، يحمل في طياته الكثير والكثير، هو في حاجة إلى غوَّاصٍ ماهر يغوص في أعماقه ويستخرج من أحشائه الدٌرر الكامنة.
إنّ انطلاقتها الرسمية المنظمة من إغريقيا عام 776 ق. م، كانت بداية وحدة وظهور حضارةعريقة قامت على أكتافها. أما انطلاقتها الثانية من فرنسا، كان بداية النهضة الأوروبية.
كانت إغريقيا تكرم أبطال أولمبيا تكريم الأبطال الأفذاذ الفاتحين،وكان تكريمهم هو تكريما للدوراتالأولمبيةالتي قال عنهاواشترك فيها الفيلسوف "ايسو قراط": "ينبغى علينا أن نثني، على هؤلاء الذين أوجدوالنا "أعياد الثناء" Panegyric، وخلفوا لنا هذا التراث، فبفضلهم أصبحنا نلتقي فيمكان واحد، بعد إعلان "الهدنة"، ونحس في نفوسنا إحساساً واحداً؛ بأننا من أصل واحد. عندها يحسن كل منا معاملة الآخر، من أجل المستقبل، بل ونِكَوّن علاقات جديدة. وليستهذه اللقاءات مضيعة للوقت؛ لا لجماهير النظارة ولا للشخص الرياضي، لأن هذا الأخيركان يستعرض أمام الإغريق المجتمعين مواهبه الطبيعية. أما الجمهور، فإنه كان يجد لذة وسروراً، في مشاهدة هذه الألعاب، وليس هناك ما يجعل أحدهما يضيق بالآخر ذرعاً؛ لأن كل فريق يجد ما يُرضي كبرياءه. وذلك عندما يدرك المشاهدون أن الرياضيين يبذلون، أقصى طاقاتهم لإدخال السرور عليهم. ويدرك الرياضيون، أن كل هذه الجموع، قد جاءت لتعبر عن إعجابها بهم". والدورات الأولمبية قامت على الصدق والعدل والنزاهة، وتحارب الغش، وتمنع الخداع والمنشطات وتمنع من قام بعمل دنئ من الاشتراك فيها كل هذا يبين لنا عظمة تلك الدورات ودورها في نهضة الفرد والمجتمع، وقيام الحضارات.
في عام 1500ق.م، بدأت الألعابالأولمبية، و كان دورها ثانوياً في بداية الأمر، إذ كانت منطلقاتها الأساسية دينية تتمثل في الاحتفالات الإغريقية الجنائزية. وفي عام 884 ق.م، وبعد خمود وركود أصاباالألعاب الأولمبية، عقدت "اتفاقيةالهدنة" بين ثلاثة ملوك (ليكورجس، وايفيتوس كليوسنتيس)، بعد استشارة كهنة معبد دلفيفي شأن استئناف الألعاب من جديد. وشهد عام 776 ق.م، الانطلاقة الرسمية المنظمة للدورات الأولمبية، بعد إصلاحها وتجديدها. وتم تسجيل أول بطل أولمبي تاريخي فاز بسباق الاستاديوم. واختاروا لهاأقدس بقعة وأجملها في إغريقيا لتقام عليها، وحددوا لها أجمل أيام الشهر حيث يكتمل فيها القمر. وعقدوا لها "هدنة مقدسة" تستمر لثلاثة شهور، تتوقف فيه النزاعات والحروب، وكذلك الإتاوات التي كانت تأخذها الدويلات الإغريقية من العابرين لأراضيها. ويعاقب كل من يعترض طريق الوافدين إلى أولمبيا، وأصبح المواطن الإغريقي،ينعم بالأمن والسلام خلال فترة "الهدنة المقدسة". وكانت فترة "الهدنة المقدسة" أوالإجبارية فتحاً عظيماً للدورات الأولمبية؛ لأنها أتاحت الفرصة أمام الإغريق للإبداع والتطوير.
ووجد ساسة الإغريق وحكماؤهم، ضالتهم المنشودة في الدورات الأولمبية، من أجل توحيد البلاد؛ لأن الألعاب الأولمبية كانت تتسم دائماً بالتعبير عن المشاعر الوطنية؛ وكانت أكبر مهرجانات، تقام في بلاد الإغريق، بل أعمها وأشملها على الإطلاق. واتخذ المؤرخون الإغريق من البداية الرسمية للدورات الأولمبية، تأريخاً يؤرخون بهالأحداث، وسمي "التأريخ الأولمبي"، واستخدموا مصطلح " الأولمبياد"، وحدةً تاريخية،لربط الحوادث بأزمانها.
وفي عام 146ق.م، سيطر الرومان على الدورات الأولمبية، بعدما أصبحت بلادالإغريق مقاطعة رومانية. واشتدت الخلافات بين الإغريق والرومان، بعدما أدخل الرومان الاحتراف في المسابقات الرياضية. وفي عهد الإمبراطور الروماني "ثيودوسيوس الأول" (346 ـ 395م)، الذي انحاز إلى أحد المذاهب المسيحية، أصدر مرسوماً عام 392 م، اعتبر فيه الوثنيين كفرة ومجرمين، وفي القرن التاسع الميلادي، ظهرت عدة محاولات لإحياء الدورات الأولمبية، خلال الأعوام (1859م، 1870م، 1875م، 1888م).
وفي عام 1892م، بدأ البارون الفرنسي "كوبرتان" ـ وكان عمره آنذاك تسعاً وعشرين سّنة ـ دعوته للنهوض بالدورات الأولمبية من جديد، وكان مولعاً بالتراث الأولمبي، بعد أن سبر غوره. فأعجبته فكرة الدورات الأولمبية بما تحمله من معانٍ إنسانية نبيلة، كل ذلك كان بجانب تخصصه في التاريخ، ولقائه مع عالم الآثار "آرنستكورتيوس". فعشق أولمبيا، وأمر بدفن قلبه فيها بعد وفاته، وتكللت مساعي النبيل الفرنسي وجهوده بالنجاح، بعد موافقة المشاركين في المؤتمر الحاسم الذي عقد يوم: 23 يونيه 1894م، في القاعة الكوبرى بجامعة السربون في باريس، ودعا إليه "كوبرتان" لمناقشة أمر إحياء الدورات الأولمبية، وتنظيمها وبعث أنشطتها المختلفة.
وفي عام 1896م، انطلقت أولى الدورات الأولمبيةالحديثة بعد توقف دام 1503عام، بعدما تم تقديم الموعد من عام 1900م إلى عام 1896م، لتنطلق من مدينة "أثينا" تكريماً لليونان، بدلاً من انطلاقها من مدينة "باريس" الفرنسية عام 1900م.
وفي القرن العشرين، شهدت الدورات الأولمبية بعض العثرات التي كادت أن تقضي عليها من البداية. مثل المعارض الدولية التي كانت تنظمها الدول في المدينة المستضيفة للدورة نفسها، وفي وقت الدورة نفسه. مما أدى إلى إطالة مدة الدورةالأولمبية، وعزوف المشاهدين والإعلاميين عن فعاليات الدورةالأولمبية، مما أصاب الدورات الأولمبية بالإخفاق الشديد، وأصاب هذا الإخفاق نفوس أعضاء اللجنة الأولمبية الدولية بالفزع، فقرروا إقامة " دورة استثنائية" عاجلة، في أثينا مهد الدورات الأولمبية القديمة؛ لنجاح دورة أثينا الأولى عام 1896م، وتفاعل اليونانيون من فعاليات الدورة؛ وكذلك لإعطاء روحٍ جديدة للدورات الأولمبية. وأقيمت الدورة الاستثنائية في أثينا عام 1906م. وحققت نجاحاً كبيراً أعاد الطمأنينة إلى نفوس أعضاء اللجنة الأولمبية الدولية. وأدت الحرب العالمية الأولى والثانية، إلى حرمان الرياضة والرياضيين من ثلاث دورات أولمبية أعوام (1916م، 1940م، 1944م).
وفي مؤتمر "لوزان" بسويسرا عام 1921م، كان هناك اقتراح، بتنظيم المسابقات الشتوية، مرة كل أربع سنوات؛ لأنه لم يكن من الملائم التوسع في الألعاب الشتوية، من خلال الدورةالأولمبية الصيفية؛ لأن الألعاب الشتوية كانت تقام على هامش الدورة الأولمبية الصيفية، فقد اشتملت دورةالألعاب الأولمبية الصيفية في "لندن" عام 1908م، على ألعاب شتوية.
وأُقيمت أول دورة للألعاب الأولمبية الشتوية رسمياً عام 1924م في منتجع "شاموني" بفرنسا. وكانت تقام الدورةالأولمبية الصيفية والشتوية في العام نفسه، ولكن الاختلاف في الوقت، حيث كانت تقام الدورة الصيفية في فصل الصيف، بينما تقام الدورة الشتوية في فصل الشتاء. وابتداءً من عام 1994م، أصبحت الدورات الأولمبية تقام مرة كل أربع سنوات مع فاصل سنتين بينها وبين الدورة الشتوية فعلى سبيل المثال أُقيمت دورة " سيدني للألعاب الصيفية عام 2000م، ودورة "سولت لايك" للألعاب الشتوية عام 2002م.
وشهدت الدورات الأولمبية في هذا القرن، تدخلات السياسة في الرياضة، ومن أبرزها رفض الحكومة الكندية استقبال بعثة تايوان، للمشاركة في الدورة الأولمبية التي استضافتها مدينة "مونتريال" عام 1976م؛ بسبب تعهد الصين ببيع القمح لكندا، على الرغم من تعهد رئيس وزراء كندا في عام 1970م، بمراعاة لوائح ونظم اللجنة الأولمبية الدولية. وكذلك مقاطعة أمريكا وحلفائها(43دولة) لدورة "موسكو1980 م"؛ بسبب غزو السوفيت لأفغانستان،والاتحاد السوفيتي وحلفائه (15دولة)، لدورة "لوس أنجلوس 1984م"، رداً على مقاطعةأمريكا لدورة "موسكو عام 1980م". وفي دورة "سيؤول عام 1988م"، كانت هناك محاولة صهيونية لاستثارة العرب، إذ ظهر اسم مدينة "القدس" كعاصمة للكيان الصهيوني، ولم تنتبه لها اللجنة المنظمة للدورةالأولمبية، إلا بعد أن وصلهم احتجاج الاتحاد العربي للألعاب الرياضية، الذي كان يرأسه آنذاك سمو الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز، عضو اللجنةالأولمبيةالدولية، وقدم رئيس اللجنة المنظمة للدورة "بارك سيه جيك" اعتذاراً رسمياًًً وجهه للاتحاد العربي للألعاب الرياضية، أوضح فيه أن الخطأ غير مقصود وحدث عفواً.
وفي عهد الماركيز الأسباني "انطونيو خوان سامارانش" أسطورةالألعاب الأولمبية الذي تربع على عرش الألعاب الأولمبية (1980م ـ 2001م) لمدة 21عاماُ، تبدلت فيها الكثير من المفاهيم الأولمبية، ونقلت الألعاب الأولمبية خلالها خطوة نحوعالم الاحتراف. وقال سامارانش: " لم أجد أمامي سوى الجمع بين الهواية والاحتراف، كي أضمن استمرارية نجاح الدورات الأولمبية، لأن غياب الحوافزالمالية، أبعد الرياضيين البارزين، عن المشاركة في أحداثها، فهبط مستواها وخف وهجها"، وفي نهاية القرن العشرين، ظهرت فضيحة الرشاوى التي عصفت بسمعة اللجنة الأولمبية الدولية وأعضائها وأدت إلى استبعاد ستة من أعضائها.
وشهد القرن الحادي والعشرين، تنظيم أعظم دورة في التاريخ الأولمبي "سيدني 2000"، أو ما يطلق عليها دورة الألفية الجديدة. وسيشهد هذا القرن وأد أفكار البارون الفرنسي "كوبرتان"؛ بسبب مطالبة العديد من قادةالرياضة بفتح الباب على مصراعيه أمام المحترفين، وخاصة في مسابقة كرة القدم ذات الشعبية الجارفة، ولكن المعارضة الشديدة التي تواجهها اللجنةالأولمبيةالدولية من رئيس الفيفا "سيب بلاتر" وهو أيضاً عضو في اللجنة الأولمبيةالدولية؛ لمطالبته بجعل مسابقة كرة القدم الأولمبية نموذجاً مصغراًلكأس العالم، وقال "بلاتر": " لن أسمح بحدوث ذلك".
وشهد هذا القرن ظهور نوع جديد من الرشاوى أطلق عليه اسم الرشاوى الرياضية، وذلك عندما حصلت الصين على فرصة تنظيم الدورة رقم (29) عام 2008م، بعد أن لوحت بمشكلة تايوان.
وشهد هذا القرن كذلك مشاركة فعّالة لبعض دول الخليج حيث سجلت كل من السعودية والكويت اسميهما في قائمة الميداليات لأول مرة في تاريخ مشاركتهما في الدورات الأولمبية. وشهد هذا القرن أيضاً أول مشاركة للمرأة الخليجية في الدورات الأولمبية، إذ شاركت فتاتان من البحرين في فعاليات الدورة الأولمبية الصيفية، وتُعدالسبَّاحة البحرينية "فاطمة" أصغر لاعبة شاركت في الدورةالأولمبية.