الرياء في الدين، وهو أنواع:
أحدهما: أن يكون من جهة البدن، بإظهار النحول والصفار، ليريهم بذلك شدة
الاجتهاد، وغلبة خوف الآخرة، وكذلك يرائي بتشعث الشعر، ليظهر أنه مستغرق في
هم الدين، لا يتفرغ لتسريح شعره.ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة
العينين، وذبول الشفتين، ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، ولهذا قال
عيسى بن مريم عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه، ويرجل شعره.
وذلك لما يخاف على الصائم من آفات الرياء، فهذا الرياء من جهة البدن لأهل
الدين.وأما أهل الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال
القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن.
النوع الثاني:
الرياء من جهة الزي، كالإطراق حالة المشي، وإبقاء أثر السجود على الوجه،
وغلظ الثياب، ولبس الصوف، وتشمير الثياب كثيراً، وتقصير الأكمام، وترك
الثوب مخرقاُ غير نظيف.
ومن ذلك لبس المرقعة، والثياب الزرق، تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من صفاتهم في الباطن.
ومنه التقنع فوق العمامة، لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك
العادة.وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، بإظهار
التزهد بلبس الثياب المخرقة الوسخة الغليظة، ليرائي بذلك، ولو كلف هذا أن
يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسونه، لكان عنده بمنزلة الذبح،
لخوفه أن يقول الناس: قد بدا له من الزهد، وقد رجع عن تلك الطريقة.
وطبقة أخرى: يطلبون القبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك
والأمراء والتجار، فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلاح،
ولو لبسوا المخرقة الدنية لازدرتهم الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين
قبول أهل الدين والدنيا، فيطلبون الأثواب الرقيقة، والأكسية الرفيعة
والفوط الرفيعة فيلبسونها، وأقل قيمة ثوب أحدهم قيمة ثوب الغنى، ولونه
وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين.وهؤلاء لو كلفوا
لبس خشن
أو وسخ، لكان عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط في أعين الملوك
والأغنياء، ولو كلفوا لبس الرقيق ورفيع الكتان الأبيض ونحو ذلك، لعظم ذلك
عليهم، خوفاً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلاح، وكل مراء بزي مخصوص ثقل
عليه الانتقال إلى ما دونه أو فوقه خوفاً من المذمة.
وأما أهل
الدنيا، فمراءاتهم بالثياب النفيسة، والمراكب الحسنة، وأنواع التجميل في
الملبس والمسكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة، ويشتد
عليهم أن يروا بتلك المنزلة.
النوع الثالث:
الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار،
لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف،
وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس،
وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.
النوع الرابع:
الرياء بالعمل،
كمرآة المصلى بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو
ذلك.وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.وأما أهل الدنيا
فمراءاتهم، بالتبختر، والاختيال، وتحريك اليدين، وتقريب الخطى، والأخذ
بأطراف الذيل، وإمالة العطفين، ليدلوا بذلك على الحشمة.
النوع الخامس:
المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً،
ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، وإن أهل الدين يترددون إليه، ويتبركون
به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال:
لقي شيوخاً كثيرة، واستفاد
منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه
والمنزلة في قلوب العباد.ومنهم من يطلب مجرد الجاه، وكم من عابد اعتزل في
جبل، وراهب انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس، لكنه يحب مجرد
الجاه.ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت.
فإن قيل:
هل الرياء حرام، أم مكروه، أو مباح؟
فالجواب:
أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فان كان الرياء
بالعبادات ،فهو حرام، فإن المرائي بصلاته وصدقته وحجته، ونحو ذلك، عاص آثم،
لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحق للعبادة وحده، فالمرائي بذلك في
سخط الله. وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدم، لا
يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال
بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال وهو الذي
طلبه يوسف عليه السلام في قوله:
{إنى حفيظ عليهم} [يوسف: 55]
ولا نقول بتحريم الجاه وإن كثر، إلا إذا حمل صاحبه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال.
وأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا
ضرر فيه، إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء
الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف
بالتحريم. وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما
هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم لا يقال: إنه منهي عنه.وقد تختلف
المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبون أن لا يروا بعين نقص في حال.وفى
أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل:
إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال:
"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.