بسم الله الرحمان الرحيم
عندما نتحدث عن الجلد وعلاقته بالديكور، فإن أول ما يخطر على البال، كنبة «تشسترفيلد»... ليس لأنها أكثر قطع الأثاث شهرة فحسب، ولكن لأنها تشكل بأناقتها الكلاسيكية وتنجيدها المزرر وتصميمها المريح وصرامتها الإنكليزية مديحاً للجلد، ومرجعاً لنبالته.
فهذه الكنبة تحملنا منذ القرن التاسع عشر الى أجواء الأندية الانكليزية التي كانت منتشرة في كل مناطق الامبراطورية الشاسعة.
وهي أيضاً تحيلنا الى أجواء النخب التي تسود تلك النوادي التي أصبحت مع الوقت ليس مجرد إسلوب حياة وإنما باتت نمط رفاهية واسلوباً زخرفياً. ولا شك في أن الجلد المبطن الذي كان يستخدم في صناعة كنبات «تشسترفيلد» بألوانه الثلاثة الكستنائي، البوردو، والأخضر الداكن، قد تمدد إستخدامه في ما بعد ليشمل قطع أثاث متنوعة، مثل مقاعد الأندية وغيرها من الاكسسوارات التي ترمز الى المستوى الاجتماعي المميز.
على أن إستخدام الجلد في الأثاث والديكور، لا يمكن رده حصرياً الى القرن التاسع عشر، بل هو قديم جداً، وإذا كان يصعب تحديد تاريخ دقيق له، فإنه في أي حال يعود الى بدايات سحيقة في تاريخ المجتمعات الإنسانية.
بيد أن هذا الأمر لا صلة له بموضوعنا هذا، بل يمكن القول إن الجلد مثل غيره من المواد التي تشهد فترات ركود وفترات إقبال. ولعل السنوات التي تمتد منذ الستينات إلى الثمانينات شهدت عودة قوية وحضوراً مؤكداً لهذه المادة التي تعد من أنبل المواد، ليس فقط لطبيعتها، ولكن للأحاسيس التي تثيرها والآثار البديعة التي تولدها في الأمكنة كما في النفوس على حد سواء.
والواقع أن الجلد لم يعد كما كان في بداياته القريبة أو البعيدة، بل أصبح اليوم عنصراً مطواعاً ومتوافراً للجميع، ويلبي كل الأذواق والميول ويتلاءم مع كل الطرز والأساليب. ذلك أن الجلود المصنعة باتت تشكل علامة فارقة بين المواد والعناصر، فهي بالإضافة الى تعدد ملامسها وتنوع أشكالها تتوافر بألوان كثيرة ويمعالجات تناسب كل الاستخدامات.
فالجلد لم يعد فقط للكنبات، بل هو أيضاً للجدران وللأرضيات وللاكسسوارات المتعددة. ولا شك في أن التقنيات الحديثة منحت الجلد أدواراً لم تكن له في ما مضى. ولكنها أيضاً جعلته مادة في متناول الجميع وبمروحة أسعار تناسب كل الميزانيات.
وإذا كان الجلد بهذه الخصائص والمواصفات والتوافر، فإن لا يمكن النصح بالتوسع في استخدامه وتعميمه على كل المشهد الزخرفي الداخلي في المنازل أو الشقق. بل ينصح بتطعيم الفضاءات في المنزل ببعض منه، كقطع أثاث أو اكسسوارات أو كبسط للأرضيات. وعليه، ينبغي الاهتمام الكبير بعملية الاختيار، لكي لا تأتي النهائيات بنتائج عكسية. بالطبع يمكن ملاحظة إمكانات التوسع في استخدامه ضمن حدود ضيقة، تفرضها طبيعة المكان، وتستوجبها ضرورات الموضوع. ففي المشاهد الزخرفية ذات التوجه الأثني، سيكون مناسباً الالتفات الى الجلد ليس من حيث جمالياته فقط، وإنما من حيث المعاني التي يضفيها على المشهد والتي تحاكي معطيات تتعدى في بعض الأحيان الوظائف وفي أحيان أخرى القيم الجمالية. على أن الأجواء التقليدية التي تستدعي التعامل مع الجلد وتتطلب حضوره في المشهد الزخرفي، ليست أجواء ساكنة وثابتة ومحدودة. بل سنجد اليوم أن المهندسين والمصممين منحوا الجلد وظائف جديدة ومهمات مبتكرة. وهكذا نرى أن الخروج على التقليد يكاد يصبح تقليداً، تحفه الغرابة حيناً والطرافة حيناً آخر، غير أن أصالته تبقى في كل الأطوار والمراحل خارج كل سؤال.
ولعل أكثر ما يمكن ملاحظته اليوم، تلك الإمكانات التي سمحت بمزاوجات بديعة، بين الجلد وعناصر أخرى، نبيلة أو أقل نبالة، طبيعية أو مصنعة. فنرى مدى تناغمه مع الأخشاب والمعادن، ولكن أيضاً يمكننا ملاحظة السحر الذي يولده في مجاورة الزجاج وبعض المواد المصنعة ذات الطبيعة الخاصة جداً.
أما علاقة الجلد بالأقمشة على أنواعها، فهي علاقة لا يمكن اختصارها ببعض العبارات. ذلك أن الشراكة التي تربطهما، تجعل من الفصل بينهما في بعض الأحيان مسألة بالغة الصعوبة لكي لا نقول مستحيلة. ففي مكان ما سنجد أن المهمّات والأدوار والوظائف ستكون متطابقة الى حد التكامل. ولكن كل ذلك يعتمد على الميول والرغبات.
حضور متمدد
تجدر الاشارة هنا الى أن حضور الجلد لم يعد مقتصراً على مساحة محددة في المنزل أو الشقة، بل تمدد ليشمل كل المساحات والفضاءات. فمن الصالونات الى صالات الجلوس الى صالات الطعام الى غرف النوم مروراُ بالحمام وصولاً إلى المطابخ. فالجلد بطواعيته الحديثة يمكن أن يلبي كل التوقعات في كل المساحات والأركان الداخلية. فهو هنا يغطي الجدران، وهناك يتمدد فوق الأرضيات. في هذه الزاوية يتجسد في الاكسسوار، وفي ذلك الركن يستريح فوق مقعد وثير أو كنبة إسترخاء جذابة. أما مقاومته للماء فتجعل منه مثالياً في الحمامات والمطابخ.
والجلد يتحول الى مادة مثالية لخلق «تضادّ» لطيف في بعض نواحي المشهد الزخرفي، ليس فقط من حيث الألوان ولكن من حيث الأشكال والطبيعة. وهذا ما نشهده في أعمال الكبار أمثال فيليب ستارك حيث الجلد باللون الأبيض أو البني القاتم، منجداً بأسلوب «الكابيتونيه» أو مطرّزاً بقطب خفية، كما في مبتكرات مارسيل وندرز، أو ناعماً ملطفاً بألوانه الزاهية كما في أعمال رشيد كريم.
لذا فإن التعامل مع الجلود في المجال الزخرفي لا يتطلب فقط المعرفة والذوق السليم في اختيار المناسب من التصاميم الرائعة التي تحمل تواقيع مشاهير الديزاين وألوانهم، بل الذهاب أبعد من ذلك، من خلال التعرف على ماهية كل نوع واساليب توزيعه واستثمار خصائصه المؤثرة التي تساهم في إقامة حوار حسي مع اجواء المكان لخلق ما يحتاجه من تأثير يزيده لطافة ودفئاً او اثارة، و ذلك بتناغم وانسجام يتراتب مع ما يحيط به من اجواء وبيئة زخرفية ومواد اخرى متنوعة الألوان والأشكال والملامس
|